تجربة "سلام الله"- قراءة تأويلية في شعر عبدالعزيز خوجة
المؤلف: نجيب يماني11.27.2025

لاشكّ أنّ ثمّة دروبًا أكثر استقامة، وسبلًا أشدّ أمانًا، ومناهج أوفى لتقدير حقّ الإدراك التامّ، والإلمام الشامل، والفهم غير المشوب بالغموض لقصيدة «سلامُ اللهِ يُنسيني هواها»، للشاعر القدير معالي الدكتور عبدالعزيز خوجة،
والذي يستهلّها بهذه الأبيات الرائعة:
بِرَبِّكِ هَلْ طَوَاكِ وَنَالَ وَطَرًا
وَهَلْ نَاجَيْتِهِ أَهًا وَأَهًا
وَهَلْ ذَاقَ العُسَيْلَةَ فِي مَدَاهَا
فَصَاحَ الوَجْدُ هَذَا مُبْتَغَاهَا
وَقَدْ نَالَ المُرَادَ لِمُنْتَهَاهُ
وَنِلْتِ مِنَ اللَّذَائِذِ مُنْتَهَاهَا
فَهَلْ ذَابَتْ شِفَاهُكِ فِي لَمَاهُ
فَصَاحَ بِسَكْرَةِ خَمْرِي لَمَاهَا
ترى، كيف السبيل الأمثل للدخول إلى هذه القصيدة الفاتنة، باستكشاف كنوز كتابه النفيس «التجربة»؟!
إننا بأمسّ الحاجة إلى استحضار تلك «التجربة» الثرية، والغوص في تفاصيلها الدقيقة، والتأمل في منعطفاتها المثيرة، حتى تتجسّد في أذهاننا صورة واضحة المعالم لهذه الشخصية المبدعة، لنتعمّق بعد ذلك في مساراتها المتنوعة، وجوهر خبرتها، فنستوعب أبعاد النصّ الشعريّ الذي بين أيدينا، والذي يزهو بجمال صياغته، وتناغمه البديع بين «الحسّي» في ذروة التعبير عن العشق الجارف، و«المعنوي» في أبهى صور المشاعر المرهفة..
جميعنا يعلم علم اليقين أنّ «الخوجة» على الرغم من غزارة تجربته الحياتية، وتنوّع مساراتها، كان للشعر أقرب وأكثر التصاقًا؛ فلم يسمح لأيّ جانب آخر في حياته أن يطغى عليه، فشعره لا يفارق دواوينه أبدًا، ولم يبتعد عن رونق ديباجته، وجمال إيقاعه، وظلّ أسيرًا له قراءةً وإبداعًا، ونشرًا.. ألَمْ تطّلع على قوله في مقدّمة «التجربة» الرائعة: [.. لقد خدمتُ في الميدان الأكاديميّ، وانخرطت في العمل الدبلوماسيّ لأكثر من عقدين من الزمن، وتبوّأتُ منصبين وزاريين، أوّلهما وكيلًا للوزارة، وثانيهما وزيرًا، إلّا أنّ لقب «شاعر» هو الأقرب إلى قلبي، ولهذا السبب أرى أنّ الأنسب هو نشر سيرتي الشعريّة في كتاب مستقلّ في المستقبل القريب]..
إنه وعد حقّ لا مرية فيه، ننتظره بشغف عظيم، ونترقّبه بقلوب متلهّفة، إذ إنّ تجربة «الخوجة» الشعريّة تحمل في طيّاتها ما يستحقّ إلقاء الضوء عليه، واستكشاف تفاصيله بوعي نافذ وبصيرة ثاقبة، كما هو الأمر في قصيدته هذه؛ «سلامُ اللهِ يُنسيني هواها» فإذا لم يتحلَّ أحدنا بالصبر لانتظار سيرته الشعريّة، فليس أقلّ من محاولة التوقّف بتأنٍّ وعمق أمام هذا النصّ الآسر، الذي لا يترك لقارئه فسحة إلّا لاختيار أحد طريقين؛ إمّا سلوك درب «التفسير» وما يحمله من معانٍ مباشرة، وسطحية باهتة، أو تبنّي مسلك «التأويل»، وما يزخر به من تجاوز للمعنى الظاهريّ، وقراءة مغايرة ومبتكرة، ممّا يجعل القارئ في هذه الحالة مبدعًا لنصّه الخاصّ الموازي، ومضيفًا بعدًا جديدًا للقصيدة بوعيه المفهوميّ المتقدّم..
وها أنا ذا أنتهج الآن مسار «التأويل»، انطلاقًا من اعتقادي بأنّني أعرف معالي الدكتور الخوجة معرفة وثيقة، تحميني من اعتبار «الحسّي» في النصّ محمولًا على معانٍ جامدة، أو نزوات عابرة، أو اندفاعات غير مدروسة.
وعليه، فالنصّ بهذا المفهوم المتألّق أشبه ما يكون بماء جارٍ في «نهر المجاز» العذب، وبراد في «واحة الرمز» الظليلة، إذ جاء مفعمًا بدلالات خفيّة، تومض من خلال ستار اللفظ الظاهر كأكثر ما تكون المعاني عمقًا، وتتآلف من وراء حجابه بنورها المتلالئ، ولدينا على ذلك شواهد لا تخطئها بصيرة، ويتجاهلها بصر، فهو كمن «يراوغك» بالبيّن الجليّ، حتى يحفزّك على استكشاف البعد الكامن في جوهر المعنى الخفيّ، دون تعسّف أو إبهام. فهو، وإن بدا لك في مستهلّ قصيدته متسائلًا في لوعة العاشق المتيّم، والولهان المعذّب عن مصير محبوبته، وقد فرّق بينهما الزمان قسرًا، وجنح به «الخيال» في رسم صور لها وقد بلغت «المراد» ونالت من «اللذائذ» غايتها مع قرينها المجهول المُغطّى عليه في ثنايا التجهيل؛ فإنّك حتمًا ستشعر بالشفقة تجاهه، وتدرك فداحة ما ألمّ به، فأيّ حزن أشدّ مرارة وأقسى أثرًا من خيبة المحبّ الأوّل، وهل غاب عن ذهنك قول قائلهم: «وما العشق إلّا للحبيب الأوّل».
فهذا هو «الخوجة».. على الرغم من شدّة تعلّقه وعشقه، جاء تصويره منسجمًا مع مشاعر الغيرة، ومدفوعًا بالشكوك والظنون، وغارقًا في المشاهد التي تضرم نار وحشته، وتوقد جذوة حبه، ولهيب غيرته، وهذا ما عبّر عنه بأوضح صورة حين استشعر بعد المطلع حالته واصفًا إياها بقوله:
ضَرَامُ العِشْقِ يَسْمُو فِي اللَّيَالِي
وَكَمْ ذَاقَ المُعَنَّى مِنْ لَظَاهَا
وَقَلْبِي لَمْ يَزَلْ يَأْوِي هَوَاهَا
وَحُبِّي لَمْ يَزَلْ يَرْعَى مُنَاهَا
وَرُوحِي لَمْ تَزَلْ تَصْبُو إِلَيْهَا
وَعَيْنِي لَا تَرَى إِلَّا سَنَاهَا
وَسَمْعِي لَمْ يَزَلْ يُصْغِي إِلَيْهَا
كَآيَاتٍ تُرَتَّلُ مِنْ سَمَاهَا
ما أروع هذا القلب الذي صمد شامخًا على مرّ الأيّام وتعاقب السنين، وظلّ وفيًّا لمن أحبّ، صادقًا في مشاعره، نقيًّا في عشقه، فبهذه الأبيات السالفات وما تبعها من أبيات لاحقات، تتلاشى صورة «الحسّي» تمامًا من مشهد العرض الخاصّ، وتتبدّى المعاني بأبعادها التأويليّة، وتأخذ القارئ إلى آفاق أرحب، وشواطئ أكثر سلامًا، وأبعد ما يكون عن ثورة النزعات الحسّيّة، وكلٌّ بمقدار ما يمتلك من معرفة واسعة، ومخزون ثقافي ثريّ، فتدبّر قوله:
فَأَوَّلُ مَنْ هَفَا قَلْبِي لِحُبٍّ
وَأَوَّلُ مَنْ سَقَى عِشْقِي صِبَاهَا
وَأَوَّلُ مَنْ سَقَانِي الخَمْرَ ثَغْرٌ
وَخَاصَمَنِي وَذَوَّبَنِي رِضَاهَا
وَأَوَّلُ مَنْ كَتَبَ الحُبَّ شِعْرًا
بِقَلْبٍ هَامَ أَوَّلَ مَا رَآهَا
فإن لم تلتمس العذر للشاعر الولهان في الذي مضى من حاله، فليس أقلّ من أن تقف معه موقف الداعم والمساند في الذي سيأتي، فقد ختم القصيدة بدرّة من المعنى المتألّق، الواصف لحاله المتيّم، بقوله:
سَلَامُ الحُبِّ يَغْشَاهَا فَتَصْبُو
سَلَامُ اللهِ يُنْسِينِي هَوَاهَا
أرأيت كيف أنّه يلتمس الشفاء والعافية لنفسه بين «سلامين»، يناشدهما مناشدة المستغيث، ويستمطرهما استمطار المستجير؛ «سلام الحب» و«سلام الله»، وهل من فرق بينهما!
وختامًا، فإن عجز «جاهل» عن إدراك الشفافيّة في هذا النصّ؛ فليس أقلّ من أن يستحضر في وعيه وذاكرته، القول المأثور: «أعذب الشعر أكذبه»، وأن يعي ما نصّت عليه الآية الكريمة في الذكر الحكيم من أنّ الشعراء يهيمون في كلّ وادٍ، وقائلون بما لا يفعلون.
والذي يستهلّها بهذه الأبيات الرائعة:
بِرَبِّكِ هَلْ طَوَاكِ وَنَالَ وَطَرًا
وَهَلْ نَاجَيْتِهِ أَهًا وَأَهًا
وَهَلْ ذَاقَ العُسَيْلَةَ فِي مَدَاهَا
فَصَاحَ الوَجْدُ هَذَا مُبْتَغَاهَا
وَقَدْ نَالَ المُرَادَ لِمُنْتَهَاهُ
وَنِلْتِ مِنَ اللَّذَائِذِ مُنْتَهَاهَا
فَهَلْ ذَابَتْ شِفَاهُكِ فِي لَمَاهُ
فَصَاحَ بِسَكْرَةِ خَمْرِي لَمَاهَا
ترى، كيف السبيل الأمثل للدخول إلى هذه القصيدة الفاتنة، باستكشاف كنوز كتابه النفيس «التجربة»؟!
إننا بأمسّ الحاجة إلى استحضار تلك «التجربة» الثرية، والغوص في تفاصيلها الدقيقة، والتأمل في منعطفاتها المثيرة، حتى تتجسّد في أذهاننا صورة واضحة المعالم لهذه الشخصية المبدعة، لنتعمّق بعد ذلك في مساراتها المتنوعة، وجوهر خبرتها، فنستوعب أبعاد النصّ الشعريّ الذي بين أيدينا، والذي يزهو بجمال صياغته، وتناغمه البديع بين «الحسّي» في ذروة التعبير عن العشق الجارف، و«المعنوي» في أبهى صور المشاعر المرهفة..
جميعنا يعلم علم اليقين أنّ «الخوجة» على الرغم من غزارة تجربته الحياتية، وتنوّع مساراتها، كان للشعر أقرب وأكثر التصاقًا؛ فلم يسمح لأيّ جانب آخر في حياته أن يطغى عليه، فشعره لا يفارق دواوينه أبدًا، ولم يبتعد عن رونق ديباجته، وجمال إيقاعه، وظلّ أسيرًا له قراءةً وإبداعًا، ونشرًا.. ألَمْ تطّلع على قوله في مقدّمة «التجربة» الرائعة: [.. لقد خدمتُ في الميدان الأكاديميّ، وانخرطت في العمل الدبلوماسيّ لأكثر من عقدين من الزمن، وتبوّأتُ منصبين وزاريين، أوّلهما وكيلًا للوزارة، وثانيهما وزيرًا، إلّا أنّ لقب «شاعر» هو الأقرب إلى قلبي، ولهذا السبب أرى أنّ الأنسب هو نشر سيرتي الشعريّة في كتاب مستقلّ في المستقبل القريب]..
إنه وعد حقّ لا مرية فيه، ننتظره بشغف عظيم، ونترقّبه بقلوب متلهّفة، إذ إنّ تجربة «الخوجة» الشعريّة تحمل في طيّاتها ما يستحقّ إلقاء الضوء عليه، واستكشاف تفاصيله بوعي نافذ وبصيرة ثاقبة، كما هو الأمر في قصيدته هذه؛ «سلامُ اللهِ يُنسيني هواها» فإذا لم يتحلَّ أحدنا بالصبر لانتظار سيرته الشعريّة، فليس أقلّ من محاولة التوقّف بتأنٍّ وعمق أمام هذا النصّ الآسر، الذي لا يترك لقارئه فسحة إلّا لاختيار أحد طريقين؛ إمّا سلوك درب «التفسير» وما يحمله من معانٍ مباشرة، وسطحية باهتة، أو تبنّي مسلك «التأويل»، وما يزخر به من تجاوز للمعنى الظاهريّ، وقراءة مغايرة ومبتكرة، ممّا يجعل القارئ في هذه الحالة مبدعًا لنصّه الخاصّ الموازي، ومضيفًا بعدًا جديدًا للقصيدة بوعيه المفهوميّ المتقدّم..
وها أنا ذا أنتهج الآن مسار «التأويل»، انطلاقًا من اعتقادي بأنّني أعرف معالي الدكتور الخوجة معرفة وثيقة، تحميني من اعتبار «الحسّي» في النصّ محمولًا على معانٍ جامدة، أو نزوات عابرة، أو اندفاعات غير مدروسة.
وعليه، فالنصّ بهذا المفهوم المتألّق أشبه ما يكون بماء جارٍ في «نهر المجاز» العذب، وبراد في «واحة الرمز» الظليلة، إذ جاء مفعمًا بدلالات خفيّة، تومض من خلال ستار اللفظ الظاهر كأكثر ما تكون المعاني عمقًا، وتتآلف من وراء حجابه بنورها المتلالئ، ولدينا على ذلك شواهد لا تخطئها بصيرة، ويتجاهلها بصر، فهو كمن «يراوغك» بالبيّن الجليّ، حتى يحفزّك على استكشاف البعد الكامن في جوهر المعنى الخفيّ، دون تعسّف أو إبهام. فهو، وإن بدا لك في مستهلّ قصيدته متسائلًا في لوعة العاشق المتيّم، والولهان المعذّب عن مصير محبوبته، وقد فرّق بينهما الزمان قسرًا، وجنح به «الخيال» في رسم صور لها وقد بلغت «المراد» ونالت من «اللذائذ» غايتها مع قرينها المجهول المُغطّى عليه في ثنايا التجهيل؛ فإنّك حتمًا ستشعر بالشفقة تجاهه، وتدرك فداحة ما ألمّ به، فأيّ حزن أشدّ مرارة وأقسى أثرًا من خيبة المحبّ الأوّل، وهل غاب عن ذهنك قول قائلهم: «وما العشق إلّا للحبيب الأوّل».
فهذا هو «الخوجة».. على الرغم من شدّة تعلّقه وعشقه، جاء تصويره منسجمًا مع مشاعر الغيرة، ومدفوعًا بالشكوك والظنون، وغارقًا في المشاهد التي تضرم نار وحشته، وتوقد جذوة حبه، ولهيب غيرته، وهذا ما عبّر عنه بأوضح صورة حين استشعر بعد المطلع حالته واصفًا إياها بقوله:
ضَرَامُ العِشْقِ يَسْمُو فِي اللَّيَالِي
وَكَمْ ذَاقَ المُعَنَّى مِنْ لَظَاهَا
وَقَلْبِي لَمْ يَزَلْ يَأْوِي هَوَاهَا
وَحُبِّي لَمْ يَزَلْ يَرْعَى مُنَاهَا
وَرُوحِي لَمْ تَزَلْ تَصْبُو إِلَيْهَا
وَعَيْنِي لَا تَرَى إِلَّا سَنَاهَا
وَسَمْعِي لَمْ يَزَلْ يُصْغِي إِلَيْهَا
كَآيَاتٍ تُرَتَّلُ مِنْ سَمَاهَا
ما أروع هذا القلب الذي صمد شامخًا على مرّ الأيّام وتعاقب السنين، وظلّ وفيًّا لمن أحبّ، صادقًا في مشاعره، نقيًّا في عشقه، فبهذه الأبيات السالفات وما تبعها من أبيات لاحقات، تتلاشى صورة «الحسّي» تمامًا من مشهد العرض الخاصّ، وتتبدّى المعاني بأبعادها التأويليّة، وتأخذ القارئ إلى آفاق أرحب، وشواطئ أكثر سلامًا، وأبعد ما يكون عن ثورة النزعات الحسّيّة، وكلٌّ بمقدار ما يمتلك من معرفة واسعة، ومخزون ثقافي ثريّ، فتدبّر قوله:
فَأَوَّلُ مَنْ هَفَا قَلْبِي لِحُبٍّ
وَأَوَّلُ مَنْ سَقَى عِشْقِي صِبَاهَا
وَأَوَّلُ مَنْ سَقَانِي الخَمْرَ ثَغْرٌ
وَخَاصَمَنِي وَذَوَّبَنِي رِضَاهَا
وَأَوَّلُ مَنْ كَتَبَ الحُبَّ شِعْرًا
بِقَلْبٍ هَامَ أَوَّلَ مَا رَآهَا
فإن لم تلتمس العذر للشاعر الولهان في الذي مضى من حاله، فليس أقلّ من أن تقف معه موقف الداعم والمساند في الذي سيأتي، فقد ختم القصيدة بدرّة من المعنى المتألّق، الواصف لحاله المتيّم، بقوله:
سَلَامُ الحُبِّ يَغْشَاهَا فَتَصْبُو
سَلَامُ اللهِ يُنْسِينِي هَوَاهَا
أرأيت كيف أنّه يلتمس الشفاء والعافية لنفسه بين «سلامين»، يناشدهما مناشدة المستغيث، ويستمطرهما استمطار المستجير؛ «سلام الحب» و«سلام الله»، وهل من فرق بينهما!
وختامًا، فإن عجز «جاهل» عن إدراك الشفافيّة في هذا النصّ؛ فليس أقلّ من أن يستحضر في وعيه وذاكرته، القول المأثور: «أعذب الشعر أكذبه»، وأن يعي ما نصّت عليه الآية الكريمة في الذكر الحكيم من أنّ الشعراء يهيمون في كلّ وادٍ، وقائلون بما لا يفعلون.
